فصل
قال الفخر :
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾
اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه، وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية.
المسألة الأولى :
دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال : كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة، ومنهم من قال : كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات.
أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون، انفقوا على أنه يجب كونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن.
وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه، وذلك أني قلت يوماً إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي، والأول : باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كانت حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيداً ألبتة، والثاني : يوجب كونها حادثة، لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول، فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه، والثاني حادث، لأن كل ما كان وجود متأخراً عن وجوده غيره فهو حادث، فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث.
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان : الأول : أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى، وهو قول الكرامية.
الثاني : أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير، وهو قول المعتزلة.
أما القول الثاني : وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات، فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة.