ولما كان سبحانه قد قضى أنه عليه السلام لا يراه في الدنيا ﴿قال﴾ نافياً المقصود، وهو الرؤية لا مقدمتها، وهو النظر الذي هو التحديق بالعين ﴿لن تراني﴾ ودل سبحانه بهذه العبارة على جواز رؤيته حيث لو يقل : لن أرى، أو لن يراني أحد ؛ ثم زاد ذلك بياناً بتعليقه بممكن فقال :﴿ولكن انظر إلى الجبل﴾ إشارة جبل بعهده، وهو أعظم جبل هناك، وزاد في الإشارة إلى الرؤية بالتعبير بأداة الشك وإتباعها بأمر ممكن فقال - :﴿فإن استقر مكانه﴾ أي وجد قراره وجوداً تاماً، وأشار إلى بعد الرؤية أيضاً وجلالة المطلوب منها بقوله :﴿فسوف تراني﴾ أي بوعد لا خلف فيه ﴿فلما تجلى ربه﴾ أي المحسن إليه بكل عطاء ومنع وبين بتعبيره باللام أنه تجلى قربه وخصوصيته، ولو عبر بعلى مثلاً لكان أمر آخر فقال - :﴿للجبل﴾ أي بأن كشف للجبل عما شاء من حجب عظمته ﴿جعله دكاً﴾ أي مدكوكاً، والدك والدق أخوان ﴿وخر﴾ أي وقع ﴿موسى صعقاً﴾ أي مغشياً عليه مع صوت هائل، فعلم أن معنى الاستدراك أنك لن تثبت لرؤيتي في هذه الدار ولا تعرف ذلك الآن، ولكنك تعرفه بمثال أريكه وهو الجبل، فإن الفاني - كما نقل عن الإمام مالك - لا ينبغي له أن يرى الباقي - ﴿فلما أفاق﴾ أي من غشيته ﴿قال سبحانك﴾ أي تنزيهاً لك عن أن أطلب منك ما لم تأذن فيه ﴿تبت إليك﴾ أي من ذلك ﴿وأنا أول المؤمنين﴾ أي مبادر غاية المبادرة إلى الإيمان بكل ما أخبرت به كل ما تضمنته هذه الآيات، فتعبيره بالإيمان في غاية المناسبة لعدم الرؤية لأن شرط الإيمان أن يكون بالغيب، فقد ورد في نبينا ( ﷺ ) آيتان : إحداهما يمكن أن تشير إلى الرؤية بالتعبير بالمسلمين دون المؤمنين في قوله ﴿وأنا أول المسلمين﴾ [ المائدة : ١٦٣ ] والثانية تومي إلى عدمها وهي ﴿آمن الرسول﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] إلى قوله :﴿كل آمن بالله﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] - والله أعلم -، وكل هذا تبكيت على قومه وتبكيت لهم في عبادتهم العجل وردع لهم
عن ذلك، وتنبيه لهم على أن الإلهية مقرونة بالعظمة والكبر بعيدة جداً عن ذوي الأجسام لما يعلم سبحانه من أنهم سيكررون عبادة الأصنام، فأثبت للإله الحق الكلام والتردي عن الرؤية بحجاب الكبر والعظمة واندكاك الجبل عند تجليه ونصب الشرع الهادي إلى أقوم سبيل تعريضاً بالعجل، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى :﴿ألم يروا أنه لا يكلمهم﴾ الآية. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ١٠٨ ـ ١٠٩﴾


الصفحة التالية
Icon