الثالث : أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل، امتنع أن يخص أحد الاعتقادين بالتحصيل والتكوين، لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه، فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلاً، وذلك يقتضي كون الشيء مشروطاً بنفسه وأنه محال، فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد، وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم.
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك :﴿أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ واعلم أن قوله :﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ يفيد الحصر، ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت، وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله :﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ﴾ وقوله :﴿فاغفر لَنَا وارحمنا﴾ المراد منه أن إقدامه على قوله :﴿إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ﴾ جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله :﴿وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين﴾ معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل، أو دفعاً للربقة الخسيسة عن القلب، وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر، أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض، بل لمحض الفضل والكرم، فوجب القطع بكونه ﴿خَيْرُ الغافرين﴾ والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٥ صـ ١٤ ـ ١٨﴾


الصفحة التالية
Icon