وكأن موسى عليه السلام عبر بهذه العبارة المقتضية لإهلاك الجميع لأنه جوز أنه كما أهلك هؤلاء يهلك غيرهم لتقصير آخر بسبب ذلك كعدم الجهاد مثلاً حتى يعمهم الهلاك ﴿بما فعل السفهاء منا﴾ فكأنه ـ ﷺ ـ رضي أنه إن لم يشملهم العفو أن يخص العفو بمن لم يذنب بالفعل ويعفو عمن قصر بالسكوت، وعلى تقدير كون الميقات غير الأول يجوز أن يكون بعد اتخاذهم العجل كما تقدم عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ، فيكون موسى عليه السلام خاف أن يكون إهلاكهم فتنة لبني إسرائيل وسبباً لكفرهم كما كان إبطاؤه عنهم بزيادة عشرة أيام الثلاثين في الميقات الأول سبباً لاتخاذهم العجل، ويجوز حينئذ أن يراد بفعل السفهاء اتخاذ العجل، ويؤيده التعبير بالفعل دون القول وقد تقدم نقله عن ابن عباس ـ رضى الله عنهم ـ ما.
ولما كان قوله هذا ربما أفهم رضاه بهلاك المذنبين، قال معرضاً بالسؤال في العفو عن الجميع :﴿إن هي﴾ أي الفتنة التي أوقعها السفهاء ﴿إلا فتنتك﴾ أي ابتلاؤك واختبارك ﴿تضل بها من تشاء﴾ أي تظهر في عالم الشهادة من ضلاله ما كان معلوماً لك في عالم الغيب ﴿وتهدي من تشاء﴾ أي تظهر ما في علمك من ذلك.
ولما أثبت أن الكل بيده، استأنف سؤاله في أن يفعل لهم الأصلح فقال :﴿أنت﴾ أي وحدك ﴿ولينا﴾ أي نعتقد أنه لا يقدر على عمل مصالحنا غيرك، وأنت لا نفع لك في شيء من الأمرين ولا ضر، بل الكل بالنسبة إليك على حد سواء، ونحن على بصيرة من أن افعالك لا تعلل بالأغراض، وعفوك عنا ينفعنا وانتقامك منا يضرنا، ونحن في حضرتك قد انقطعنا إليك وحططنا رحال افتقارنا لديك.
ولما اثبت أنه الفعال لما يشاء وأنه لا ولي لهم غيره، وكان من شأن الولي جلب النفع ودفع الضر، سبب عن كونه الولي وحده قوله بادئاً بدفع الضرر :﴿فاغفر لنا﴾ أي امح ذنوبنا ﴿وارحمنا﴾ أي ارفعنا ؛ ولما كان التقدير : فأنت خير الراحمين، عطف عليه قوله :﴿وأنت خير الغافرين﴾ أي لأن غيرك يتجاوز عن الذنب للثناء أو الثواب أو دفعاً للصفة الخسيسة وهي صفة الحقد ونحوه، وأنت منزه عن ذلك، وكأنه أحسن العفو عنهم فقال عاطفاً على سؤاله فيه :﴿واكتب لنا﴾. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ١٢٠ ـ ١٢٢﴾