بَعْدَ بَطْنٍ، فَخَلَقَهُمُ اللهُ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ غَرِيزَةَ الْإِيمَانِ، وَجَعَلَ مِنْ مَدَارِكِ عُقُولِهِمُ الضَّرُورِيَّةِ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، وَكُلَّ حَادِثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، وَأَنَّ فَوْقَ الْعَوَالِمِ الْمُمْكِنَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى سُنَّةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلَ وَالْمَعْلُولَاتِ، سُلْطَانًا أَعْلَى عَلَى جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَيْ : أَشْهَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ الْمُتَسَلْسِلَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْدَعَهُ فِي غَرِيزَتِهِ، وَاسْتِعْدَادِ عَقْلِهِ قَائِلًا قَوْلَ إِرَادَةٍ وَتَكْوِينٍ، لَا قَوْلَ وَحْيٍ وَتَلْقِينٍ، أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ فَقَالُوا كَذَلِكَ بِلُغَةِ الِاسْتِعْدَادِ وَلِسَانِ الْحَالِ، لَا بِلِسَانِ الْمَقَالِ : بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا وَالْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِعِبَادَتِنَا، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ : فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (٤١ : ١١) وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّعْبِيرِ وَالْبَيَانِ يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِالتَّمْثِيلِ، وَهُوَ أَعْلَى أَسَالِيبِ الْبَلَاغَةِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْبُلَغَاءِ كَثِيرَةٌ.