أما قوله :﴿أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة، ومتشاركة أيضاً في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر، وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته، والخير لأجل العمل به : فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام.
ثم قال :﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها.
فلهذا السبب قال تعالى :﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ وقال حكيم الشعراء :
الروح عند إله العرش مبدؤه.. وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما.. ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن.. فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله :﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ وجوه أخرى فقيل : لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع، وقال مقاتل : هم أخطأ طريقاً من الأنعام، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه.
وقال الزجاج :﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها، وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه، ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب، وقيل إنها تفر أبداً إلى أربابها، ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها.


الصفحة التالية
Icon