وقال ابن عاشور :
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) ﴾
لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثاً عن تكذيبهم من جاء بها، وناشئاً عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر، وأن مَن يدعي أنه مرسل من الله مجنون، عقب الإخبار عن المكذبين ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول، وأنه ليس بمجنون كما يزعمون.
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى :﴿ أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم ﴾ في سورة البقرة ( ٨٧ ).
والجملة مستأنفة، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم.
والاستفهام للتعجيب من حالهم والانكار عليهم، و ( ما ) في قوله :﴿ ما بصاحبهم من جنة ﴾ نافية كما يؤذن به دخول ( من ) على منفى ما، لتأكيد الاستغراق.
وفعل ﴿ يتفكروا ﴾ منزل منزلة اللازم، فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله :﴿ ما بصاحبهم من جنة ﴾ أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق.
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى :﴿ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ﴾ [ الأنبياء : ٦٥ ] هو في قوة أن يقال : لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون، أي ذلك علمك وهذا علمي، وقوله هنا :﴿ أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ﴾ في قوة : أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون، ما بصاحبهم من جنة.
فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم يُنبه عليه علماء المعاني، وأن خصائص العربية لا تنحصر.