كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين : أحدهما أنه ﷺ كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفاً لفعلهم. وعن الحسن وقتادة أن النبي ﷺ قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذاً من قريش : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح. فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك أنه ﷺ كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظباً على أعمال حسنة، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين. ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على دلائل التوحيد قال ﴿ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ﴾ أي في مدلولاتهما. والملكوت الملك العظيم، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله ﴿ إن في خلق السموات والأرض ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ] ثم قال ﴿ وما خلق الله من شيء ﴾ أي مما يقع عليه اسم الشيء من اجناس غير محصورة. والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض، بل كل ذرة من ذارت هذا العالم. فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية، وبقدر معين من الأقدار، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها، وكل واحد من هذه