الوجه الثالث : أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار، لا ليكون حجة للكفار على الرسول، ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به ؟ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر، قالوا ونحن نذكر في الآية وجوهاً : الأول : أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت، يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة.
قال القاضي : ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله :﴿وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها.
الثاني : أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل، فكأنه قال : بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به، وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم، سال الوادي.
الثالث : أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر، فكأنه قيل لهم، سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن، فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة، والجبن بالشجاعة، لأنه تعالى مقلب القلوب.
الرابع : قال مجاهد : المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه.
والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون، فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف.
وجعل القلب كناية عن العقل جائز، كما قال تعالى :
﴿إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ ق : ٣٧ ] أي لمن كان له عقل.