وقال ابن عاشور :
قوله :﴿ الذين عاهدت منهم ﴾ بدل من ﴿ الذين كفروا ﴾ بدلاً مطابقاً، فالذين عاهدهُم هُم الذين كفروا، فهم لا يؤمنون.
وتعدية ﴿ عاهدت ﴾ بـ ﴿ مِن ﴾ للدلالة على أنّ العهد كان يتضمّن التزاماً من جانبهم، لأنّه يقال أخذت منه عهداً، أي التزاماً، فلمّا ذكر فعل المفاعلة، الدالّ على حصول الفِعل من الجانبين، نبّه على أنّ المقصود من المعاهدة التزامهم بأنّ لا يعينوا عليه عدوّاً، وليست ﴿ من تبعيضية لعدم متانة المعنى إذ يصير الذم متوجّهاً إلى بعض الذين كفروا، فهم لا يؤمنون، وهم الذين ينقضون عهدهم.
وعن ابن عباس، وقتادة : أنَّ المراد بهم قريظة فإنّهم عاهدوا النبي أن لا يحاربوه ولا يعينوا عليه عدوّه، ثم نقضوا عهدهم فأمدّوا المشركين بالسلاح والعُدّة يوم بدر، واعتذروا فقالوا : نسينا وأخطأنا، ثم عاهدوه أن لا يعودوا لمثل ذلك فنكثوا عهدهم يوم الخندق، ومالوا مع الأحزاب، وأمدّوهم بالسلاح والأدراع.
والأظهر عندي أن يكون المراد بهم قريظة وغيرَهم من بعض قبائل المشركين، وأخصها المنافقون فقد كانوا يعاهدون النبي ثم ينقضون عهدهم كما قال تعالى :{ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ﴾
[ التوبة : ١٢ ] الآية.
وقد نقض عبد الله بن أُبي ومَن معه عهد النصرة في أحُد، فانخزل بمَن معه وكانوا ثلث الجيش.
وقد ذُكر، في أوّل سورة براءة عَهْد فرق من المشركين.
وهذا هو الأنسب بإجراء صلة الذين كفروا عليهم لأنّ الكفر غلب في اصطلاح القرآن إطلاقه على المشركين.
والتعبير، في جانب نقضهم العهد، بصيغة المضارع للدلالة على أنّ ذلك يتجدد منهم ويتكرر، بعد نزول هذه الآية، وأنهم لا ينتهون عنه، فهو تعريض بالتأييس من وفائهم بعهدهم، ولذلك فُرّع عليه قوله :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب ﴾ إلخ.
فالتقدير : ثم نقضوا عهدهم وينقضونه في كلّ مرّة.


الصفحة التالية