وقال ابن عطية :
قوله تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ الآية
الضمير في ﴿ جنحوا ﴾ هو للذين نبذ إليهم على سواء، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه... بذكراك والعيس المراسيل جنح
وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض ومنه قول النابغة :[ الطويل ]
جوانح قد أيقنَّ أن قبيله... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
أي موائل، وقال لبيد :[ الوافر ]
جنوح الهالكيِّ على يديه... مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال
وقرأ جمهور الناس " للسَّلم " بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر " للسِّلم " بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة، ويقال أيضاً " السَّلَم " بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة، وقرأ جمهور الناس " فاجنَح " بفتح النون وهي لغة تميم، وقرأ الأشهب العقيلي " فاجنُح " وهي لغة قيس بضم النون، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس، وعاد الضمير في ﴿ لها ﴾ مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس، وقال أبو حاتم يذكر السلم، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة.
قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ﴾ [ آل عمران : ١٣٩ ] الآية.
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه، لأن الآيتين مبينتان، وقوله ﴿ وتوكل على الله ﴾ أمر في ضمنه وعد. أ هـ ﴿المحرر الوجيز حـ ٢ صـ ﴾