فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ إلى المشركين، قاله قتادة، وعكرمة، والحسن، وجابر بن زيد، ورواه عطاء عن ابن عبّاس، وقيل : عاد إلى أهل الكتاب، قاله مجاهد.
فالذين قالوا : إنّ الضمير عائِد إلى المشركين، قالوا : كان هذا في أوّل الأمر حين قلّة المسلمين، ثم نسخ بآية سورة براءة ( ٥ ) ﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ الآية.
ومن قالوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب قالوا هذا حكم باق، والجنوح إلى السلم إمّا بإعطاء الجزية أو بالموادعة.
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : ٥٥ ] فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام بعد نزول آية براءة، فهي مخصّصة العمومَ الذي في ضمير ﴿ جنحوا ﴾ أو مبيّنة إجمالَه، وليست من النسخ في شيء.
قال أبو بكر بن العربي :"أما من قال إنها منسوخة بقوله :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ [ التوبة : ٥ ] فدعوى، فإنّ شروط النسخ معدومة فيها كما بيّنّاه في موضعه".
وهؤلاء قد انقضى أمرهم.
وأمّا المشركون من غيرهم، والمجوس، وأهل الكتاب، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوّة المسلمين ومصالحهم وأنّ الجمع بين الآيتين أوْلى : فإن دَعَوا إلى السلم قبل منهم، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين.
قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوّة ومنعة وعدّة :
فلاَ صلح حتى تُطعَن الخيل بالقنا
وتضربَ بالبيض الرقاقِ الجماجمُ...
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدىء المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه.
قد صالح النبي ﷺ أهلَ خيبر، ووادع الضمري، وصالح أكيد رَدُومة، وأهلَ نجران، وهادن قريشاً لعشرة أعوام حتى نَقضوا عهده".