ولما كانت الآيات المتقدمه في آلات الجهاد من النفس والمال تارة بالحث على إنفاقه وأخرى بالنهي عن حبه وتارة بالتسلية للأسرى عند فقده، كان الأنسب تقديم قوله :﴿بأموالهم﴾ أي بإنفاقهم لها في الجهاد وتضييع بعضها بالهجرة من الديار والنخيل وغيرها ﴿وأنفسهم﴾ بإقدامهم على القتال مع شدة الأعداء وكثرتهم ؛ وقدم المال لأنه سبب قيام النفس، وكان في غاية العزة في أول الأمر، وأخر قوله :﴿في سبيل الله﴾ أي الملك الأعظم لذلك، " وفي " سببية أي جاهدوا بسببه حتى لا يصد عنه صاد فتظهر محاسنه ويسهل المرور فيه من غير قاطع، ولعله عبر ب " في " إعلاماً بأنه ينبغي أن يكون متمكناً من السبيل تمكن المظروف من ظرفه حتى يكون الدين غالباً عليه لا يخرج عنه بوجه من الوجوه، وأما في سورة براءة فلما كان السياق في بعض الأماكن بها للسبيل قدم - كما سيأتي، وأيضاً فإن هذه السورة نزلت في أوائل الأمر بعد وقعه بدر في السنة الثانية من الهجرة، وكان الحال إذ ذاك شديداً جداً، والأموال في غاية القلة، والأعداء لا يحصون، فناسب الاهتمام بشأن المال والنفس فقدما ترغيباً في بذلهما، وأما براءة فنزلت في غزوة تبوك في أواخر سنة تسع، فكان المال قد اتسع، والدين قد عز وضخم وقوي وعظم، وأسلم غالب الناس، فبعدت مواضع الجهاد فعظمت المشقة، وتواكل الناس بعضهم على بعض ورغبوا في الإقبال على إصلاح الأموال، فناسب البداءة هناك بالسبيل.