وأما القسم الثاني : من المؤمنين الموجودين في زمان محمد ﷺ فهم الأنصار، وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله ﷺ وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود ألبتة، ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه : أولها : أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب : وثانيها : أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً، وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه، وهذه الحال ما حصلت للأنصار.
وثالثها : أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار.
ورابعها : أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال :" من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به، فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة، فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية.
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال :﴿أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾ واختلفوا في المراد بهذه الولاية، فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم، أن المراد هو الولاية في الميراث.
وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة.
وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب.