وقال أبو السعود :
قوله تعالى :﴿ الذين ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ ﴾
استئنافٌ لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم. وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمراً لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة ﴿ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله ﴾ أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة ﴿ وَأُوْلئِكَ ﴾ أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ، وما في اسم الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة ﴿ هُمُ الفائزون ﴾ المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم، وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد، روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه : يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله ﷺ، فقال : ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام؟ فلما نزلت قال : ما أُراني إلا تاركَ سقايتِنا فقال عليه السلام :" أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً " وروى النعمانُ بن بشير قال : كنت عند منبرِ رسولِ الله ﷺ فقال رجلٌ : ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ، وقال آخَرُ : ما أبالي ألا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام، وقال آخرُ : الجهادُ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم، فزجرهم عمرُ رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسولِ الله ﷺ وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله ﷺ فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ، والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد