ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول : إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله ؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله :﴿يضل به﴾ أي بهذا التأخير الذي هو النسيء ﴿الذين كفروا﴾ أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله - هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول : يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب - بالضم : يضلهم الله ؛ ثم بين ضلالهم بقوله :﴿يحلونه﴾ أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال :﴿عاماً ويحرمونه عاماً﴾ هكذا دائماً كلما أرادوا.
وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين ﴿ليواطئوا﴾ أي يوافقوا ﴿عدة ما حرم الله﴾ أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة ﴿فيحلوا﴾ أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا ﴿ما حرم الله﴾ أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال!


الصفحة التالية
Icon