وَالرَّدُّ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فَهُوَ فِي أَوَّلِهِ يُوَافِقُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ، ثُمَّ يُتْبِعُهُ مَا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَضَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (٦٣ : ٢٨) الْآيَةَ. فَهُمْ كَانُوا يَعْنُونَ أَنَّهُمُ الْأَعِزَّةُ، وَيُعَرِّضُونَ بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَقَلَبَ عَلَيْهِمْ مُرَادَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَصْلِ الْقَضِيَّةِ وَهِيَ إِخْرَاجُ الْأَعَزِّ لِلْأَذَلِّ بِإِثْبَاتِ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْأَذَلُّونَ وَلَوْ شَاءَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَأَخْرَجَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا إِذَا
أَظْهَرُوا كَفْرَهُمْ ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرْعِيَّتِهِ الْحُكْمُ عَلَى الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الِانْتِصَافِ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَقَالَ : لَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِطْمَاعٌ لَهُمْ بِالْمُوَافَقَةِ ثُمَّ كَرٌّ عَلَى طَمَعِهِمْ بِالْحَسْمِ وَأَعْقَبَهُمْ فِي تَنَقُّصِهِ بِالْيَأْسِ مِنْهُ، وَيُضَاهِي هَذَا مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِ الْفُقَهَاءِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّ فِي أَوَّلِهِ إِطْمَاعًا لِلْخَصْمِ بِالتَّسْلِيمِ، ثُمَّ بِالطَّمَعِ عَلَى قُرْبٍ وَلَا شَيْءَ أَقْطَعُ مِنَ الْأَطْمَاعِ ثُمَّ الْيَأْسِ يَتْلُوهُ وَيَعْقُبُهُ اهـ.