وقال فى الكشاف :
كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدّوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتقضت بناها التي بنيت عليها للإحساس والإدراك كقوله :
صُم إذا سَمِعُوا خَيْراً ذُكِرْتُ بِه...
وإنْ ذُكِرْتُ بُسوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
أَصَمُّ عَمَّا سَاءَهُ سَمِيعُأ...
َصَمُّ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لا أرِيدُهُ...
واسمع خلق الله حين أريد ف
أصَممت عمراً وأعميته...
عَنِ الجُودِ والفَخْرِ يَوْمَ الفَخَار
فإن قلت : كيف طريقته عند علماء البيان ؟
قلت : طريقة قولهم " هم ليوث " للشجعان، وبحور للأسخياء.
إلا أنّ هذا في الصفات، وذاك في الأسماء، وقد جاءت الاستعارة في الأسماء والصفات والأفعال جميعاً.
تقول : رأيت ليوثاً، ولقيت صماً عن الخير، ودجا الإسلام.
وأضاء الحق.
فإن قلت : هل يسمى ما في الآية استعارة ؟
قلت : مختلف فيه.
والمحققون على تسميته تشبيهاً بليغاً لا استعارة ؛ لأنّ المستعار له مذكور وهم المنافقون.
والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه، لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام، كقول زهير :
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلاَحِ مُقَذَّفٍ...
لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
ومن ثم ترى المفلقين السحرة منهم كأنهم يتناسون التشبيه ويضربون عن توهمه صفحاً.
قال أبو تمام :
ويُصْعِدُ حتَّي يَظُنَّ الجَهُولُ...
بأَنَّ لهُ حَاجَةً في السَّمَاءْ
وبعضهم :
لا تَحْسَبُوا أَنَّ في سِرْبَالِهِ رَجُلاً...
ففِيهِ غَيْثٌ وَلَيْثٌ مُسْبِلٌ مُشْبِل
وليس لقائل أن يقول : طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدأ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج :
أَسَدٌ عَلَيَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ...
فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ