الوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من ﴿أُولَئِكَ الذين اشتروا﴾ [ البقرة : ٦١ ] الخ والأخير على تقدير أن يكون من ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ [ البقرة : ١٧ ] الخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤا منه، والأعمى لا ينظر طريقاً وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتاً من صوب مرجعه فيهتدي به والفاء للدلالة على أن اتصافهم بماتقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا.
ومن البطون : صم آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجباً عمي عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه.
وقال سيدي الجنيد قدس سره : صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ١ صـ ١٦٨ ـ ١٧٠﴾
وقال ابن عاشور :
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( ١٨ )﴾
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضمير ﴿مَثَلُهم﴾ [ البقرة : ١٧ ] ولا يصح أن يكون عائداً على ﴿الذي استوقد﴾ [ البقرة : ١٧ ] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخرُه لأن قوله :﴿كمثل الذي استوقد ناراً﴾ يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لمَا تأتى منه الاستيقاد، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفاً بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِف للسامع فيقولون : فلان أو فتىً أو رجلٌ أو نحو ذلك على تقدير هو فلان، ومنه قوله تعالى :﴿جزاءً من ربك عطاءً حساباً ربُّ السماوات والأرض وما بينهما﴾ [ النبأ : ٣٦، ٣٧ ] التقدير هو رب السماوات عُدل عن جعل ( رب ) بدلاً من ربك، وقول الحماسي :
سأشكر عَمرا إن تراختْ منيتي...
أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلَّتِ


الصفحة التالية
Icon