هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون ﴿ذهب الله بنورهم﴾ لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله ﴿ذهب الله بنورهم﴾ يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك :﴿وتركهم في ظلمات لا يبصرون﴾ تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :
ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينة...
تَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله ﴿وتركهم﴾ من إفادة تحقيرهم، وما في جمع ﴿ظلمات﴾ من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة ﴿ذهب الله بنورهم﴾ وما يقتضيه جمع ﴿ظلمات﴾ من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي.
وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع.
وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل.
قال النابغة :
فلا تتركّني بالوعيد كأنني...
إلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة :
جادت عليه كل عيننٍ ثرةٍ...
فترَكن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon