ولما كان المقام للزلازل، ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال :﴿قلوب فريق﴾ أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة ﴿منهم﴾ أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله ـ ﷺ ـ فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ.
أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال :﴿ثم تاب عليهم﴾ أي كلهم تكريراً للرفعة، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات ؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة، قال وقيل : ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى.
ويجوز أن يكون عبر ب ﴿ثم﴾ لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من " جيش أو غيره " فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه : ثم علل لطفه بهم بقوله :﴿إنه بهم رؤوف رحيم﴾ والرأفة : شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في ﴿الرحمن الرحيم﴾ فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، وقيل : الرأفة : إزالة الضر، والرحمة : إيصال النفع، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة.
فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى.
فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ.
فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٣ صـ ٣٩٦ ـ ٣٩٧﴾


الصفحة التالية
Icon