الرابع : أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء، فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين، والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع، وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل، وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر، فكان الابتداء بهم أولى.
الخامس : أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه، وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم.
السادس : أن دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل، وحصول المقصود أيسر.
السابع : أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه، والقرب سبب السهولة، فوجب الابتداء بالأقرب.
الثامن : أنا بينا أن رسول الله ﷺ ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب، وفي الغزو بالأقرب فالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك.
فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له :" كل مما يليك " فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب.
فإن قيل : ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح، لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً.
قلنا : ذاك احتمال واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل، وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد، أما إذا أمكن الجمع بين الكل، فلا كلام في أن الأولى هو الجمع، فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة.
وأما قوله تعالى :﴿وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ قال الزجاج : فيها ثلاث لغات، فتح الغين وضمها وكسرها.