وَكَوْنُهُ رَبَّى أُمَّتَهُ بِمَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَطَبَائِعِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ، بَلْ لَمْ تَصِرْ عِلْمًا مُدَوَّنًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ ؛ لِغَفْلَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا الصَّرِيحَةِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَهَا الْمُؤَرِّخُ الْفَقِيهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ ؛ مُؤَمِّلًا أَنْ يُعْنَى بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيَأْتُوا بِتَوْسِيعِ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ مَبَاحِثِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ فِي دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، كَانَ دَاخِلًا فِي طَوْرِ الِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى الْإِفْرِنْجُ فِيهِمَا فَتَرْجَمُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ بِلُغَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَخَذُوا مِنْهَا عِدَّةَ عُلُومٍ فِي سُنَنِ الْعُمْرَانِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُهَا الْيَوْمَ عَنْهُمْ غَافِلِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ الْمُقَلِّدِينَ حَجَبُونَا عَنْ هِدَايَتِهِ، بَلْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِكُتُبِ مَذَاهِبِهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ انْتِقَامَهُ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ بِهَا سَلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ عَادُوا إِلَيْهَا بِإِقَامَةِ سُنَنِ الْقُرْآنِ، لَيُتِمَّنَّ لَهُمْ وَعْدَهُ بِخِلَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَبِقَدْرِ إِقَامَةِ هَذِهِ السُّنَنِ يَكُونُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقِيمُهَا. أ هـ ﴿تفسير المنار حـ ١١ صـ ٢٥٤ ـ ٢٦٠﴾


الصفحة التالية
Icon