وهذا يدل أيضاً على أن الحق سبحانه قد شاء أن يبدأ الإسلام في مكة، حيث الأمة التي تعلن رأيها واضحاً ؛ ولذلك نجد أن النفاق لم ينشأ إلا في " المدينة "، أما في مكة، فهم قوم منسجمون مع أنفسهم، فهم حين أعلنوا الكفر لم يعانوا من تشتت المَلَكَات، لكن المنافقين في المدينة وغيرها هم الذين كانوا يعانون من تشتت الملكات، ومنهم من كان يلعب على الطرفين، فيقول بلسانه ما ليس في قلبه.
ولذلك يُعزِّي الحق رسوله الكريم ﷺ ويُسََرِّى عنه وبين له : إياك أن تحزن لأنهم يكذبونك ؛ لأنك محبوب عندهم وموقَّر، فيقول الحق سبحانه :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ].
أي : أنك يا محمد مُنزَّه عن الكذب؟
ويقول الحق سبحانه :﴿ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٣ ].
أي : أنه سبحانه يحملها عن رسوله ﷺ ؛ لأن الحق سبحانه يعلم أن رسوله أمين عند قومه، وهم في أثناء معركتهم معه، نجد الواحد منهم يستأمنه على أشيائه النفيسة.
والذين آمنوا برسالته ﷺ ولم يعلنوا إيمانهم، والذين لم يؤمنوا، هؤلاء وأولئك أمرهم موكول إلى الله تعالى ؛ ليلقوا حسابهم عند الخالق سبحانه ؛ لأنه سبحانه الأعلم بمن كذَّب عناداً، ومن كذَّب إنكاراً.
والحق سبحانه هو الذي يُعذِّب ويُعاقِب، وكل إنسان منهم سوف يأخذ على قَدْر منزلته من الفساد ؛ لذلك يُنهي الحق سبحانه الآية بقوله :﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ [ يونس : ٤٠ ].
والمفسد كما نعلم هو الذي يأتي إلى الشيء الصالح فيصيبه بالعطب ؛ لأن العالَم مخلوقٌ قبل تدخُّل الإنسان على هيئة صالحة، وصنعة الله سبحانه وتعالى لم يدخل فيها الفساد إلا بفعل الإنسان المختار، وصنعة الله تؤدي مهمتها كما ينبغي لها.