ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً : الأول : قال أبو مسلم : لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة، فكان وجود ذلك العمر كالعدم، فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى :﴿وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ﴾ [ البقرة : ٩٦ ] الثاني : قال الأصم : قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة، والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة.
الثالث : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد.
الرابع : أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر.
الخامس : المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا، وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف.
وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب، أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال، والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع، والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع.
وأيضاً لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة، بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة، وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات، وأيضاً إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية، وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود.
إذا عرفت هذا فنقول : أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله :﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار﴾ إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد.
أما قوله :﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ ففيه وجوه :


الصفحة التالية
Icon