وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِّيًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَالْجَوَابُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ تَأْكِيدَهُ بِالْقَسَمْ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُقْنِعُ السَّائِلِينَ، وَمَنْ عَرَفَ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ لَمْ يَسْتَشْكِلِ السُّؤَالَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُونَ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ كَمَا قِيلَ : إِنَّمَا سَأَلُوا أَهْوَ جِدٌّ أَمْ هَزْلٌ، فَأَرَادُوا مِنَ الْحَقِّ لَازِمَهُ وَهُوَ الْجِدُّ لَا مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقِلُّ فِيهِمُ الْكَذِبُ لِعَزَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَدَمِ خُضُوعِهِمْ لِرِيَاسَةٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا
يَهَابُونَ الْأَيْمَانَ الْبَاطِلَةَ وَيَخَافُونَهَا، وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ، وَنَاهِيكَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ صِغَرِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَعَنِ الشَّرَائِعِ وَيَسْتَحْلِفُهُ فَإِذَا حَلَفَ اطْمَأَنَّ لِصِدْقِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَإِنَّ صِدْقَ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَقِلُّ مِثْلُهُ فِي رِجَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.