فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير ؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى :﴿فلما جاءهم﴾ أي فرعون وملؤه ﴿الحق﴾ أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله :﴿من عندنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين ﴿قالوا﴾ أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به ﴿إن هذا لسحر مبين﴾ كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث.
فلما قالوا كان كأنه قيل : فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله :﴿قال موسى﴾ ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته ﴿أتقولون للحق﴾ ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله :﴿لما جاءكم﴾ أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول : فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول ؛ ثم كرر الإنكار بقوله :﴿أسحر هذا﴾ أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك.
فالآية من الاحتباك : ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول.