الوجه الثالث : هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد، ألا ترى أنه قال :﴿لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسرائيل ﴾ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله، إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً، فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده، فكان هذا محض التقليد، فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه، ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة طه كان من الدهرية، وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته، إلا بنور الحجج القطعية، والدلائل اليقينية، وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد، لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق.
الوجه الرابع : رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل، فلما قال فرعون ﴿آمنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذى آمنتْ بِهِ بَنواْ إسرائيل ﴾ انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر.
الوجه الخامس : أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه، فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون ﴿آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل﴾ فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول، وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون.
الوجه السادس : لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى، والإقرار بنبوة موسى عليه السلام.
فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه.
ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله، فكذا ههنا.