وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا دليل له لأنها مكية وليست من المستثنيات والآية مطلقة وسبب نزولها ما ذكرناه آنفا، أما الآية المدنية الثالثة فهي قوله تعالى "أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ" وأراد بأعماله الصالحة وجه اللّه تعالى ابتغاء ثوابه لأنه يعمل مخلصا على برهان ناصع وحجة واضحة دالة على طريق الحق والصواب فيما يأتيه ويذره لأن البيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة وتنوينها للتعظيم، أي بينة عظيمة الشان، والمراد بها هنا القرآن المعبر عنه بالبيّنة ولذلك ذكر الضمير هنا بتأويل البينة بالبرهان أو القرآن أي الذي يعمل على هذا النور ليس كمن وصف بالآية المتقدمة من الذين يعملون على جهل وظلمة "وَيَتْلُوهُ" أي القرآن الموصوف بما تقدم "شاهِدٌ مِنْهُ" أي يتبع هذا القرآن دليل منه وهو الإعجاز في نظمه وإخباره بالغيب دليل كاف على أنه من عند اللّه تعالى "وَمِنْ قَبْلِهِ" أي القرآن، وذكر الضمير تأكيدا لأنه يكون المراد به هو هو "كِتابُ مُوسى " أي التوراة الجليلة لا الصحف المنزلة عليه قبلها لعدم إطلاق لفظ الكتاب عليها فهي شاهدة بصحته أنه من عند اللّه لأنه يخبر عما قبلها، وهذا كاف في الاستشهاد بكونه "إِماماً" في الدين والأحكام يقتدي به المهتدون "وَرَحْمَةً" عظيمة ونعمة كبرى لمن أنزل عليهم واتبعوه وعملوا بما فيه واهتدوا بهديه، لأن التوراة الجلية أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع التي لا بد للبشر منها إذ الكتب والصحف قبلها كانت تحتوي على التوحيد والإيمان واعتقاد بالنبوة فقط، لذلك يقال لها صحف ولا يطلق عليها لفظ الكتاب إلا مجازا، وقد يجوز أن تتطرق الصحف لبعض الأحكام، راجع الآيتين ٣٦/ ٣٧ من سورة والنجم المارتين في ج ١ "أُولئِكَ" الذين اقتدوا في التوراة وعملوا فيها