الوجه الثاني : كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيراً وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد.
والوجه الثالث : في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا :﴿مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا﴾ إلى قوله :﴿وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾ [ هود : ٢٧ ] فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا، وإنما يسعى في طلب الدين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل، فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه.
فأما قوله :﴿وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ﴾ فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعاً لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء.
روى ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام :﴿وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ﴾ وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا :﴿وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى﴾ [ هود : ٢٧ ] كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون : لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم، ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم، وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أموراً : الأول : أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوهاً منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة.