وثالثها : أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون.
ورابعها : أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون : ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون.
وخامسها : أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول :﴿إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ وفيه وجوه : الأول : التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة.
الثاني : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا.
الثالث : أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد، لأنكم لا تستجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.
فإن قيل : السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلنا : إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى :﴿وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا﴾ [ الشورى : ٤٠ ].
أما قوله تعالى :﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة، وفي قوله :﴿مَن يَأْتِيهِ﴾ وجهان : أحدهما : أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل : فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا الوجه فمحل "من" رفع بالابتداء.