لإظهاره جرياً على نهج الأخلاقِ الحميدةِ، وإنما أظهره جزاءً بما صنعوا بعد اللتيا والتي، فإن سخريتَهم كانت مستمرةً ومتجدّدةً حسب تجدُّدِ مرورِهم عليه، ولم يكن يُجيبهم في كل مرة، وإلا لقيل : ويقول إن تسخروا منّا الخ، بل إنما أجابهم بعد بلوغِ أذاهم الغايةَ كما يؤذِن به الاستئنافُ، فكأن سائلاً سأل فقال : فما صنع نوحٌ عند بلوغِهم منه هذا المبلغ؟ فقيل : قال : إن تسخروا منا أي إن تنسُبونا فيما نحن بصدده من التأهب والمباشرةِ لأسباب الخلاصِ من العذاب إلى الجهل وتسخَروا منا لأجله فإنا ننسُبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة، ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعّرضِ لأسباب حلولِ سخطِ الله تعالى التي من جملتها استجهالُكم إيانا وسخريتُكم منا.
والتشبيهُ في قوله تعالى :﴿ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوالِ التي لا تليق بشأن النبيِّ عليه الصلاة والسلام فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال، وقيل : نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة، ولعل مرادَه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ، ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالَهم إذ ذاك ليس مما يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ.
﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ﴾