ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها :﴿ويا قوم﴾ أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم ﴿أوفوا﴾ أي أتموا إتماماً حسناً ﴿المكيال والميزان﴾ أي، المكيل والموزون وآلتهما ؛ وأكده بقوله :﴿بالقسط﴾ أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند ﴿غير منقوص﴾ أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه ؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال :﴿ولا تبخسوا﴾ أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة ﴿الناس أشياءهم﴾ ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال :﴿ولا تعثوا في الأرض﴾ أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم ﴿مفسدين﴾ أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة " عثى " بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث - للأرض السهلة، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث - لطلب الأعمى الشيء ؛ والأعثى : الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى ؛ قال أئمة اللغة : عثى وعاث : أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي : عثى في الأرض بمعنى