الوجه الثالث : أنَّ " لَمَّا " هنا هي الجازمة للمضارع حُذِف مجزومُها لفهم المعنى. قال الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب في أماليه :" لمَّا " هذه هي الجازمةُ فحُذِف فِعْلُها للدلالةِ عليه، لِما ثبت من جواز حَذْفِ فِعْلِها في قولهم :" خَرَجْتُ ولمَّا " و " سافرتُ ولمَّا " و هو شائعٌ فصيح، ويكون المعنى : وإنَّ كلاً لمَّا يُهْمَلوا أو يُتْرَكوا لِما تقدَّم من الدلالةِ عليه مِنْ تفصيل المجموعين بقوله ﴿ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٥ ]، ثم فَصَّل الأشقياءَ والسعداء، ومجازاتَهم، ثم بَيَّن ذلك بقولِه ﴿ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ﴾، قال :" وما أعرفُ وجهاً أشبهَ مِنْ هذا، وإن كانت النفوسُ تستبعده مِنْ جهةِ أن مثلَه لم يَرِدْ في القرآن "، قال :" والتحقيقُ يأبى استعبادَه ". قلت : وقد نَصَّ النحويون على أن " لمَّا " يُحذف مجزومُها باطِّراد، قالوا : لأنها لنفيِ قد فَعَلَ، وقد يُحذف بعدها الفعل كقوله :
٢٧٢٥ أَفِدُ الترحل غيرَ أن رِكابَنا | لَمَّا تَزُل برحالِنا وكأنْ قَدِ |
أي : وكأن قد زالت، فكذلك مَنْفِيُّه، وممَّن نَصَّ عليه الزمخشري، عَلى حَذْفِ مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب " معاني الشعر " له قولَ الشاعر :
٢٧٢٦ فجِئْتُ قبوَرُمْ بَدْءاً ولمَّا | فنادَيْتُ القبورَ فلم يُجِبْنَهْ |
قال :" قوله " بدءاً "، أي : سيداً، وبَدْءُ القوم سيِّدهم، وبَدْءُ الجَزْور خيرُ أَنْصِبائها، قال :" وقوله " ولما "، أي : ولما أكنْ سَيِّداً إلا حينَ ماتوا فإني سُدت بعدهم، كقول الآخر :
٢٧٢٧ خَلَتِ الدِّيارُ فسُدْتُ غيرَ مُسَوَّدِ | ومن العَناءِ تَفُّردي السُّؤْدُدِ |
قال :" ونظيرُ السكوتِ على " لمَّا " دونَ فعلها السكوتُ على " قد " دونَ فعلِها في قول النابغة : أَفِدَ الترحُّل : البيت ".