ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة : وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب، وقابلها هو القلب، والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية، لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل، فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب، وهو تثبيت الفؤاد، ثم لما ذكر صلاح حال القابل، أردفه بذكر الموجب، وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.
﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴾
اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار، والترغيب والترهيب، أتبع ذلك بأن قال للرسول :﴿وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة ﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾ وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه، والمعنى : افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر، فنحن أيضاً عاملون.
وقوله :﴿اعملوا﴾ وإن كانت صيغته صيغة الأمر، إلا أن المراد منها التهديد، كقوله تعالى لإبليس :﴿واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ [ الإسراء : ٦٤ ] وكقوله :﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ [ الكهف : ٢٩ ] وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان.
قال ابن عباس رضي الله عنهما :﴿وانتظروا﴾ الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٨ صـ ٦٤ ـ ٦٥﴾