وأنّ تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علماً بأنّ مراتب العقول البشريّة متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل، فيعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأنّ المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جُبِلَ عليها النظام البشري، فلا يُحْزنه مخالفة قومه عليه، ويزيده علماً بسمُوّ أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى عليه السّلام واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب.
والإشارة من قوله :﴿ في هذه ﴾ قيل إلى السورة وروي عن ابن عبّاس، فيقتضي أن هذه السورة كانت أوفى بأنباء الرسل من السور النازلة قبلها وبهذا يجري على قول من يقول : إنها نزلت قبل سورة يونس.
والأظهر أن تكون الإشارة إلى الآية التي قبلها وهي ﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلى قوله من الجنة والنّاس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٦ ١١٩ ].
فتكون هذه الآيات الثلاث أول ما نزل في شأن النهي عن المنكر.
على أن قوله :﴿ وجاءك في هذه الحق ﴾ ليس صريحاً في أنه لم يجىء مثله قبل هذه الآيات، فتأمل.
ولعلّ المراد بـ ﴿ الحق ﴾ تأمين الرسول من اختلاف أمته في كتابه بإشارة قوله :﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقيّة ﴾ [ هود : ١١٦ ] المفهم أنّ المخاطبين ليسوا بتلك المثابة، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً.
وتعريفُه إشارة إلى حق معهود للنبيء ؛ إمّا بأن كان يتطلّبه، أو يسأل ربه.
والموعظة : اسم مصدر الوعظ، وهو التّذكير بما يَصُدّ المرء عن عمل مضرّ.
والذكرى : مجرد التّذكير بما ينفع.
فهذه موعظة للمسلمين ليحذروا ذلك وتذكيراً لهم بأحوال الأمم ليقيسوا عليها ويتبصّروا في أحوالها.
وتنكير ﴿ موعظة وذكرى ﴾ للتعظيم.


الصفحة التالية
Icon