ولما ابتدئت السورة الماضية بأن هذا الكتاب محكم، وختمت بالحكمة المقصودة من قص أنباء الرسل، وكان السياق للرد عليهم في تكذيبهم به في قوله ﴿أم يقولون افتراه﴾ [ سجدة : ٣ ] ودل على أنه أنزل بعلمه، ابتدئت هذه لإتمام تلك الدالة بالإشارة إلى ما له من علو المحل وبعد الرتبة، فعقب سبحانه هذه المشكلة التي ألقاها بالأحرف المقطعة وبان أنها مع إِشكالها عند التأمل واضحة بقوله مشيراً إلى ما تقدم من القرآن وإلى هذه السورة :﴿تلك﴾ أي الآيات العظيمة العالية ﴿آيات الكتاب﴾ أي الجامع لجميع المرادات.
ولما تقدم أول سورتي يونس وهود وصفة بالحكمة والإحكام والتفصيل، وصف هنا بأخص من ذلك فقال تعالى :﴿المبين﴾ أي البين في نفسه أنه جامع معجز لا يشتبه على العرب بوجه، والموضح لجميع ما حوى، وهو جميع المرادات لمن أمعن التدبر وأنعم التفكير، ولأنه من عند الله ﴿ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه﴾ [ يوسف : ١١١ ] و ﴿موعظه وذكرى للمؤمنين﴾ [ هود : ١٢٠ ] ؛ والبيان : إظهار المعنى للنفس بما يفصله عن غيره وهو غرض كل حكيم في كلامه، ويزيد عليه البرهان بأنه إظهار صحة المعنى بما يشهد به، وأبان - لازم متعد ؛ ثم علل المبين بقوله معبراً بالإنزال لأنه في سياق تكذيبهم به بخلاف ما عبر فيه بالجعل كما يأتي في الزخرف :﴿إنا أنزلناه﴾ بنون العظمة أي الكتاب المفسر بهذه السورة أو بالقرآن كله ﴿قرآنا﴾ سمي بعضه بذلك لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض ﴿عربياً﴾ وعلل إنزاله كذلك بقوله :﴿لعلكم تعقلون﴾ أي لتكونوا على رجاء من أن تكونوا من ذوي العقل أو من أن تعقلوا ما يراد منكم ؛ قال : أبو حيان و " لعل " ترجّ فيه معنى التعليل.
وهذه الآية تدل على أن اللسان العربي أفصح الألسنة وأوسعها وأقوامها وأعدلها، لأن من المقرر أن القول - وإن خص بخطابه قوم - يكون عاماً لمن سواهم.