والقول الثالث : يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية، إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة، ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية، فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال، لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت، فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها، فقوله :﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله :﴿اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٨ صـ ٨٧ ـ ٩٠﴾


الصفحة التالية
Icon