وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد : المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك " البعض " فلا يصدق : رأيت أحد الرجلين - ألا برجل منهما، بخلاف " بعض " والفتيا : الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته - ذكره الرماني.
ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز - الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار -يشير إلى اليابسة والعجاف - والله أعلم.
ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال :﴿وقال﴾ أي يوسف عليه الصلاة والسلام ﴿للذي ظن﴾ مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله :﴿قضى الأمر﴾، ويجوز أن يكون ضمير " ظن " للساقي، فهو حينئذ على بابه ﴿أنه ناج منهما﴾ وهو الساقي ﴿اذكرني عند ربك﴾ أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله :
﴿أرباب متفرقون﴾ [ يوسف : ٣٩ ].
فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قال لهما يوسف عليه الصلاة والسلام ﴿فأنساه﴾ أي الساقي ﴿الشيطان﴾ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ﴿ذكر﴾ يوسف عليه الصلاة والسلام عند ﴿ربه﴾ أي بسبب اعتماده عليه في ذلك (١) ﴿فلبث﴾ أي يوسف عليه الصلاة والسلام بسبب هذا النسيان ﴿في السجن﴾ من حين دخل إلى أن خرج ﴿بضع سنين﴾ ليعلم أن جميع الأسباب إنما أثرها بالله تعالى، وحقيقة البضع من الثلاث إلى التسع، والمروي هنا أنه كان سبعاً.
_________
(١) لله در الإمام البقاعى، فهذا هو الصحيح والراجح ـ إن شاء الله ـ خلافا لكثير من المفسرين الذين زعموا أن الضمير فى قوله ﴿ فأنساه ﴾ يعود على يوسف ـ عليه السلام ـ وعدوا ذلك ذنبا فعاقبه تعالى بلبثه فى السجن بضع سنين، والحق الذى لا ريبة فيه أن يوسف ـ عليه السلام ـ برىء من هذا الاتهام ومتى غفل عن ذكر ربه طرفة عين ؟؟!!!، ولو تمهلوا قليلا لأدركوا عدم صحة ما توهموه، فيوسف ـ عليه السلام ـ هو الذى قال ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْ ﴾
ولما جاءه رسول الملك لم يسارع بالخروج من السجن بل قال ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾
ومتى كان للشيطان سبيلا على الأنبياء وقد قال الله تعالى ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢) ﴾. والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon