ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال :﴿قال أنا يوسف﴾ وزادهم قوله :﴿وهذا أخي﴾ أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله ﴿وأخيه﴾ وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه قوله :﴿قد منَّ الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿علينا﴾ بأن جمع بيننا على خير حال تكون ؛ ثم تعليله بقوله :﴿إنه من يتق﴾ وهو مجزوم لأنه فعل الشرط، وأثبت قنبل - بخلافه عنه - ياءه في الحالين معاملاً له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال ﴿ويصبر﴾ أي يوفه الله أجره لإحسانه ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لا يضيع﴾ أي أدنى إضاعة - أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال :﴿أجر المحسنين﴾ والتقوى : دفع البلاء بسلوك طريق الهدى ؛ والصبر : حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام - إن لم تكن بالتدريج - عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس


الصفحة التالية
Icon