وبعد فهذا استطراد اندفعت إليه وأمامي هذه السورة - سورة الرعد - وكأنما أقرؤها لأول مرة، وقد قرأتها من قبل وسمعتها ما لا أحصيه من المرات. ولكن هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ؛ ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات وإشراقات وإيحاءات وإيقاعات بقدر ما تفتح له نفسك ؛ ويبدو لك في كل مرة جديدا كأنك تتلقاه اللحظة، ولم تقرأه أو تسمعه أو تعالجه من قبل !
وهذه السورة من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيقاع واحد، وجو واحد، وعطر واحد من بدئها إلى نهايتها ؛ والتي تفعم النفس، وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج، والتي تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر والإيقاعات والإشراقات ؛ والتي ترتاد بالقلب آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ، مبصر، مدرك، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والموحيات.
إنها ليست ألفاظا وعبارات، إنما هي مطارق وإيقاعات: صورها. ظلالها. مشاهدها. موسيقاها. لمساتها الوجدانية التي تكمن وتتوزع هنا وهناك !
إن موضوعها الرئيسي ككل موضوع السور المكية كلها على وجه التقريب - هو العقيدة وقضاياها.. هو توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وتوحيد الدينونة لله وحده في الدنيا والآخرة جميعا ؛ ومن ثم قضية الوحي وقضية البعث... وما إليها...
ولكن هذا الموضوع الواحد ذا القضايا الواحدة، لم يتكرر عرضه قط بطريقة واحدة في كل تلك السور
المكية وفي غيرها من السور المدنية. فهو في كل مرة يعرض بطريقة جديدة ؛ وفي ضوء جديد ؛ ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد !