والثالث : أن قوله :﴿تَرَوْنَهَا﴾ صفة للعمد، والمعنى : بغير عمد مرئية، أي للسموات عمد.
ولكنا لا نراها قالوا : ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها.
وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله، وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك.
وأما قوله :﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش، لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله، بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز.
وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة، وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال، فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه.