إن المقابل لمن يعلم أن أنزل إليك من ربك هو الحق ليس هو من لا يعلم هذا، إنما المقابل هو الأعمى! وهو أسلوب عجيب في لمس القلوب وتجسيم الفروق، وهو الحق في الوقت ذاته لا مبالغة فيه ولا زيادة ولا تحريف. فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى الواضحة التي لا تخفى إلا على أعمى. والناس إزاء هذه الحقيقة الكبيرة صنفان : مبصرون فهم يعلمون، وعمي فهم لا يعلمون! والعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح، وانفصالها عن مصدر الإشعاع..
﴿ إنما يتذكر أولو الألباب ﴾..
الذين لهم عقول وقلوب مدركة تذكر بالحق فتتذكر، وتنبه إلى دلائله فتتفكر.
وهذه صفات أولي الألباب هؤلاء :
﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ﴾..
وعهد الله مطلق يشمل كل عهد، وميثاق الله مطلق يشمل كل ميثاق. والعهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان ؛ والميثاق الأكبر الذي تتجمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان.
وعهد الإيمان قديم وجديد. قديم مع الفطرة البشرية المتصلة بناموس الوجود كله ؛ المدركة إدراكاً مباشراً لوحدة الإرادة التي صدر عنها الوجود، ووحدة الخالق صاحب الإرادة، وأنه وحده المعبود. وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم فيما ارتضيناه لها من تفسير.. ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان ولكن ليجددوه ويذكروا به ويفصلوه، ويبينوا مقتضياته من الدينونة لله وحده والانخلاع من الدينونة لسواه، مع العمل الصالح والسلوك القويم، والتوجه به إلى الله وحده صاحب الميثاق القديم..