والنص الرابع يقرر أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً.. وفي ظل مجموع النصوص يتضح أن المقصود هو أنه لو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى، أو لقهرهم على الهدى. ولكنه سبحانه شاء أن يخلقهم كما خلقهم مستعدين للهدى أو للضلال ؛ ولم يشأ بعد ذلك أن يقهرهم على الهدى ولا أن يقهرهم على الضلال حاشاه! إنما جعل مشيئته بهم تجري من خلال استجابتهم أو عدم استجابتهم لدلائل الهدى وموحيات الإيمان.
أما النص الخامس فيقرر أن الذين كفروا زُين لهم مكرهم وصُدوا عن السبيل.. وأخذ أمثال هذا النص بمفرده هو الذي ساق إلى الجدل المعروف في تاريخ الفكر الإسلامي حول الجبر والاختيار.. أما أخذه مع مجموعة النصوص كما رأينا فإنه يعطي التصور الشامل : وهو أن هذا التزيين وهذا الصد عن السبيل، إنما كان من جراء الكفر وعدم الاستجابة لله. أي من جراء تغيير الكفار ما بأنفسهم إلى ما يقتضي أن تجري مشيئة الله فيهم بالتزيين والصد والإضلال.
وتبقى تكملة لا بد منها لجلاء هذا الموضوع الذي كثر فيه الجدل في جميع الملل.. ذلك أن اتجاه الناس بأنفسهم لا يوقع بذاته مصائرهم. فهذه المصائر أحداث لا ينشئها إلا قدر الله ؛ وكل حادث في هذا الكون إنما ينشأ ويقع ويتحقق بقدر من الله خاص ؛ تتحقق به إرادته وتتم به مشيئته :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾ وليست هنالك آلية في نظام الكون كله، ولا حتمية أسباب تنشئ بذاتها آثاراً. فالسبب كالأثر كلاهما مخلوق بقدر.. وكل ما يصنعه اتجاه الناس بأنفسهم هو أن تجري مشيئة الله بهم من خلال هذا الاتجاه، أما جريان هذه المشيئة وآثاره الواقعية فإنما يتحقق بقدر من الله خاص بكل حادث :﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ وهذا التصور كما أسلفنا عند مواجهة النص في سياق السورة يزيد من ضخامة التبعة الملقاة على هذا الكائن الإنساني ؛ بقدر ما يجلو من كرامته في نظام الكون كله. فهو وحده المخلوق الذي تجري مشيئة الله به من خلال اتجاهه وحركته.