الثالث : أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض، فهذا هو المراد من مكرهم.
قال القاضي : وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة.
المسألة الثانية :
قوله :﴿وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ﴾ فيه وجهان : الأول : أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول.
والمعنى : ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.
والثاني : أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول، والمعنى : وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون.
أما قوله تعالى :﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال﴾ فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده ﴿لِتَزُولَ﴾ بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه، والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية.
أما القراءة الأولى : فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال، وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه، بل التعظيم والتهويل وهو كقوله :﴿تَكَادُ السموات يتفطرن الكتاب مِنْهُ﴾ [ مريم : ٩٠ ].
وأما القراءة الثانية : فالمعنى : أن لفظ "إن" في قوله ؛ ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ﴾ بمعنى "ما" واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل.
والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى :﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ].


الصفحة التالية