فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهاً على وجوب الأخذ بالأحوط، وذلك واقع في التهديد، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة، وزيدت ما فيها تأكيداً من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها ؛ قال الإمام أبو حيان : والظاهر أن ما في رب، مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر - على خلاف فيه - لا يليها إلا الأسماء، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجىء في القرآن إلا في هذا الموضع - انتهى.
ودخلت ههنا على المضارع - وهي للماضي - لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان، أو لأن " ما " إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على المعرفة - قال الرماني.
ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل : هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل : بل استمروا على عنادهم، فقال - مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله ﴿الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾ [ إبراهيم : ٣ ] من المانع لهم عن الإذعان - :﴿ذرهم﴾ يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم ﴿يأكلوا ويتمتعوا﴾ والتمتع : التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال ﴿ويلههم﴾ أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة ﴿الأمل﴾ أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيىء لذلك
ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا أحمق، سبب عنه التهديد بقوله :﴿فسوف يعلمون﴾ أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه : لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه