ولما كان هذا الكلام الذي قالوه عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاقاً وله غائظاً موجعاً، قال تعالى تسلية له على وجه راد عليهم :﴿ولقد أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة والجلال والهيبة ؛ ولما كان الإرسال بالفعل غير عام للزمان كله، قال :﴿من قبلك﴾ أي كثيراً من الرسل ﴿في شيع﴾ أي فرق، سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة أو عمارة أو ديانة أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة ﴿الأولين﴾ كلهم، فما أرسلنا إلا رجالاً من أهل القرى مثلك يوحى إليهم، ولم نرسل مع أحد منهم ملائكة تراها أممهم، بل جعلنا مكاشفة الملائكة أمراً خاصاً بالرسل، فكذبوا رسلهم ﴿وما يأتيهم﴾ عبر بالمضارع تصويراً للحال، إيذاناً بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالاً والماضي قريباً منه، وأكد النفي فقال :﴿من رسول﴾ أي على أي وجه كان ﴿إلا كانوا به﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿يستهزئون﴾ مكررين لذلك دائماً، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئاً، فلا تبتئس بما يفعلون بك ؛ والاستهزاء في الأصل : طلب الهزوء، والمراد به هنا - والله أعلم - الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلاً، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلاً إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال - قاله الرماني.


الصفحة التالية
Icon