"وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً" واسعا كافيا يبسر وسهولة "مِنْ كُلِّ مَكانٍ" كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) الآية ٥٦ من سورة القصص المارة في ج ١، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية ١٥٦ من البقرة في ج ٣، لأن المراد بالقرية مكة "فَكَفَرَتْ" أهاليها وسكانها "بِأَنْعُمِ اللَّهِ" المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها "فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ" الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال :
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها
وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من "الْجُوعِ وَالْخَوْفِ" جزاء "بِما كانُوا يَصْنَعُونَ" ١١٢ لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى (أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية ٦٠ من سورة العنكبوت الآتية والمراد من
قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء :


الصفحة التالية
Icon