وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة، بل فاعل مختار، وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً، وحيث كان الأمر كذلك، علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم.
والوجه الثاني : أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع، إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسماً بسيطاً، وإذا كان الأمر كذلك، فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض، وحيث لم يكن الأمر كذلك، علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك، لأن تلك التأثيرات متشابهة، فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم، وهو المطلوب، هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار.
وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى :﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ﴾ وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله :﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى :


الصفحة التالية
Icon