وقد سبحانه الإخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعاً وأعظم شأناً وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغني بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفياً بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره ﷺ حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد جعلها إداماً كالعسل فإنه كثيراً ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث أن كلاً منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثفله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناءً على ما يقولون : إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعاً رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغاً وبذلك يقوى التضاد، ويقويه أيضاً أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك.
وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جداً، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجهاً لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا يرد أن في كل جهة تقديماً فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon